منذ حوالي خمس سنوات كنت كتبت نصا روائيا تدور أحداثه في مدينة بورتسودان الساحلية، التي أخبرها وأكتب عنها كثيرا، ويروى بلسان بطل لم يذكر اسمه في النص أبدا، بالرغم من أن كل الشخصيات الأخرى التي تنهض بالحكاية معه، أو تطل برأسها لعدة أسطر وتختفي، كانت تحمل أسماء، وبعضها معرفا حتى باسمه الثلاثي. أيضا ذكرت منذ أيام على صفحتي في موقع فيسبوك، التي أغذيها أحيانا بالغرائب التي تصادفني، أن لدي صديقا أعرفه منذ خمسة عشر عاما، وألتقيه باستمرار، حين أذهب لما أسميه ركن الكتابة، يجلس معي أحيانا، أو أجلس معه حين لا أكون مشغولا، ونتحدث في أشياء كثيرة، مثل كرة القدم، وأخبار الحروب والدمار، ومؤشرات البورصة، لكنه لا يعرف اسمي ولا أعرف اسمه، ولم نتطرق إلى مسألة أسمائنا أبدا. وشخصيا لم أر ذلك مهما، وأظنه لم ير الأمر أيضا مهما، وإن كنت إضافة إلى ذلك أعتـــبرها مــســألة غمــوض تحــيط بشخصية موجودة في محيطي، وذلك جو أحبه وأؤيد وجوده، وأخترعه في نصوصي الروائية أحيانا كما ذكرت.
لقد بدا كثير من القراء مغتاظين من وجود رجل عاشق متجذر في نصي الروائي، يقوم ويقع ويبكي ويضحك، ويتعلق بالمواصلات العامة، ويطارد أطيافا أرهقته، من دون أن يكون له اسم يضاف إلى تخيل القارئ عنه. وكنت أتابع آراء القراء في عدد من مواقع القراءة المعروفة، وأجد معظمهم اتفقوا على الاستياء من ذلك المجهول من ناحية التعريف بالرغم من وجود صفاته كلها في النص. وراسلني البعض بدافع الفضول طبعا، ليعرفوا اسم الشخص الذي كان من الممكن أن يكتب ولم يكتب، ولم أكن لسوء الحظ أعرفه، أو اقترحته أصلا، هو موضوع أخذته من الواقع بالخامة المجهولة نفسها التي كانت متوفرة، وطورته من دون أن أحس بضرورة تعريف الرجل باسم محدد. وحتى لو أن الأمر كان مخترعا فلا أظنني أول من كتبه، فهناك كثيرون منذ عرفت كتابة الرواية، لم يضعوا أسماء لأبطالهم، ومضى الأمر عاديا ومدهشا في كثير من الأحيان، المهم فقط أن يكون ثمة أحداث تدور وحكاية متتابعة لا يضيعها شيء.
وأذكر أنني أثناء حياتي العملية، حين كنت أعمل في مدينة بورتسودان، التقيت بشخص لم يكن في رأيي مجنونا، ولا رافضا للحياة، وبالرغم من ذلك أصر على مناداته بلقب المجهول، لأنه يحب أن يكون مجهولا. وبالفعل ناديته بذلك اللقب، وكتبت عنه في سيرة ذاتية أنجزتها مؤخرا بوصفه ذلك المجهول الذي اقتحم حياتي فترة من الزمن، بعثر بعض مجرياتها، وأعاد ترتيب بعضها الآخر.
إذن الأسماء بالرغم من أهميتها الكبرى، لا تبدو ملزمة للكثيرين ولا تبدو براقة للكثيرين أيضا، هناك من يتعرف إليك في مناسبة ما، ويذكر اسمه مباشرة، ويسألك عن اسمك أو يحثك على ذكر اسمك، ومن يتردد في السؤال بعد أن يذكر اسمه، ومن يصادقك لسنوات طويلة، ولا يخطر بباله أن صداقته ناقصة أو تحتاج إلى تكملة، من دون معرفة الاسم.
ربما تسنح فرص معينة في يوم ما ويعرف الناس الأسماء الغائبة لبعضهم وربما لا تأتي فرصة أبدا، ويظل الحال غامضا أو مدهشا كما يحدث معي وصديق الركن الذي ذكرته.
بغض النظر عن موضوعي مع ذلك الصديق صاحب الاسم الغائب، أو بطلي في الرواية، أو الآخر الذي عرفته في زمن بعيد وسمى نفسه مجهولا، أعتبر نفسي من عشاق الأسماء. نعم أعشق غرابة الأسماء بالفعل، وكم من مرة حدقت طويلا في وجه شخص سمعت اسمه يتردد، وكان غريبا وموحيا كما أعتقد. وذكرت كثيرا أن الأسماء لها دلالاتها المعينة، وتتحدث عن أصحابها بترف ويمكن أن تكون بديلا سخيا عن الوصف المسهب في النصوص الإبداعية. ولعل وجودي في مهنة ألتقي فيها بعشرات الأشخاص يوميا، وكل يحمله اسما معينا، جعل تأملي للأسماء أكثر شغفا بحيث لا أستطيع سماع اسم غريب غير مستخدم تقريبا، ولا أدونه في ذاكرتي، أو أستخدمه في حكاية ما. مثلما حدث مع طفل كان اسمه عجيب تمبولي، وآخر كان اسمه جبار القرنين، وحتى رسائل الاحتيال التي قد ترد إلى بريدي وبريد كل من يستخدم الإنترنت، فيها أسماء من القوة والإيقاع بحيث يمكن توظيفها حالا بلا أي مشقة.
وكما ذكرت من قبل، فأنا أعتقد كثيرا في ظلال الأسماء وأنها تعبر بالضبط عن شخصيات حامليها، ومن النادر جدا أن لا تجد شخصا يشبه اسمه أو مهنته تشبه الاسم. فلن يكون غريبا أن تجد جزارا مثلا اسمه الصعب أو النعمان، بينما سيكون غريبا ان يكون اسمه هيثم أو حسام، وقد قلت لجزار التقيته مرة، وكان اسمه عاطف، ان عليه تغيير اسمه أو مهنته لأن ثمة عدم تناسق في الأمر، فاستغرب من شخص يستخدم الأسماء بهذه الطريقة.
بالطبع لا شيء ملزم لأحد من ناحية عشقي للغرائب التي إن لم أعثر عليها في محيطي، قمت باختراعها، هو أسلوب في الحياة، مثل أساليب كثيرة، يملكها الناس ويتآلفون معها بشكل أو بآخر. وخلال قراءاتي للعديد من القصص، سواء أكانت عربية أو قادمة من لغات أخرى، أحس بالتنافر في مسألة الوجه والاسم أو الشخصية والاسم، وأسعى لتعديل بعض الأشياء في ذهني. وأعرف تماما أن غيري لا يلتفت لذلك، وكاتب النص نفسه قد يستغرب من رأي غير مدعوم بأي شيء سوى الإحساس بأن ثمة خطأ.
جانب آخر كان يحملني على إزعاج كتاب بذلوا جهدا ولا يودون أن ينزعجوا، وهو ما يحدث أثناء قيامي بتحرير النصوص المنتجة في ورش الكتابة الإبداعية التي قد أكلف بالإشراف عليها. ففي كثير من الأحيان أجد شخصية رخوة في نص ما، أوكلت إليها مهام جليلة لا تشبه الاسم أو الصفات، وشخصية صلدة ومهمة تركت ثانوية بلا عمل أو فعل. أيضا أجد ولدا فقيرا متشردا في الشوارع، بلا أي ميزة، تحبه فتاة أرستقراطية مشبعة بالأناقة والجمال، وبائع خضروات متجول في الشوارع، عشقته ربة أحد البيوت وفرت معه تاركة كنزا من الفخامة والاستقرار. وهكذا، وعثرت مرة على سباك أمي، دخل بيتا لتصليح مواسير تسرب المياه، فسقطت طالبة الطب التي تسكن البيت في هواه. كنت أحرر النص بحيث يعتدل في رأيي وأخطر صاحبه الذي قد يرضى وقد يتذمر، وأذكر أن كاتبة شاركت معنا مرة في ورشة، كتبت للقائمين على الورشة، بأنها لا ترغب في أن يحرر المشرف نصها وإلا ستنسحب. لقد قرأت النص طبعا، وكان بحاجة لمجهود كبير، حتى يغدو نصا شبيها بالحياة التي تروى داخله لكنني لم أمسه أبدا.
كاتب سوداني
لقد بدا كثير من القراء مغتاظين من وجود رجل عاشق متجذر في نصي الروائي، يقوم ويقع ويبكي ويضحك، ويتعلق بالمواصلات العامة، ويطارد أطيافا أرهقته، من دون أن يكون له اسم يضاف إلى تخيل القارئ عنه. وكنت أتابع آراء القراء في عدد من مواقع القراءة المعروفة، وأجد معظمهم اتفقوا على الاستياء من ذلك المجهول من ناحية التعريف بالرغم من وجود صفاته كلها في النص. وراسلني البعض بدافع الفضول طبعا، ليعرفوا اسم الشخص الذي كان من الممكن أن يكتب ولم يكتب، ولم أكن لسوء الحظ أعرفه، أو اقترحته أصلا، هو موضوع أخذته من الواقع بالخامة المجهولة نفسها التي كانت متوفرة، وطورته من دون أن أحس بضرورة تعريف الرجل باسم محدد. وحتى لو أن الأمر كان مخترعا فلا أظنني أول من كتبه، فهناك كثيرون منذ عرفت كتابة الرواية، لم يضعوا أسماء لأبطالهم، ومضى الأمر عاديا ومدهشا في كثير من الأحيان، المهم فقط أن يكون ثمة أحداث تدور وحكاية متتابعة لا يضيعها شيء.
وأذكر أنني أثناء حياتي العملية، حين كنت أعمل في مدينة بورتسودان، التقيت بشخص لم يكن في رأيي مجنونا، ولا رافضا للحياة، وبالرغم من ذلك أصر على مناداته بلقب المجهول، لأنه يحب أن يكون مجهولا. وبالفعل ناديته بذلك اللقب، وكتبت عنه في سيرة ذاتية أنجزتها مؤخرا بوصفه ذلك المجهول الذي اقتحم حياتي فترة من الزمن، بعثر بعض مجرياتها، وأعاد ترتيب بعضها الآخر.
إذن الأسماء بالرغم من أهميتها الكبرى، لا تبدو ملزمة للكثيرين ولا تبدو براقة للكثيرين أيضا، هناك من يتعرف إليك في مناسبة ما، ويذكر اسمه مباشرة، ويسألك عن اسمك أو يحثك على ذكر اسمك، ومن يتردد في السؤال بعد أن يذكر اسمه، ومن يصادقك لسنوات طويلة، ولا يخطر بباله أن صداقته ناقصة أو تحتاج إلى تكملة، من دون معرفة الاسم.
ربما تسنح فرص معينة في يوم ما ويعرف الناس الأسماء الغائبة لبعضهم وربما لا تأتي فرصة أبدا، ويظل الحال غامضا أو مدهشا كما يحدث معي وصديق الركن الذي ذكرته.
بغض النظر عن موضوعي مع ذلك الصديق صاحب الاسم الغائب، أو بطلي في الرواية، أو الآخر الذي عرفته في زمن بعيد وسمى نفسه مجهولا، أعتبر نفسي من عشاق الأسماء. نعم أعشق غرابة الأسماء بالفعل، وكم من مرة حدقت طويلا في وجه شخص سمعت اسمه يتردد، وكان غريبا وموحيا كما أعتقد. وذكرت كثيرا أن الأسماء لها دلالاتها المعينة، وتتحدث عن أصحابها بترف ويمكن أن تكون بديلا سخيا عن الوصف المسهب في النصوص الإبداعية. ولعل وجودي في مهنة ألتقي فيها بعشرات الأشخاص يوميا، وكل يحمله اسما معينا، جعل تأملي للأسماء أكثر شغفا بحيث لا أستطيع سماع اسم غريب غير مستخدم تقريبا، ولا أدونه في ذاكرتي، أو أستخدمه في حكاية ما. مثلما حدث مع طفل كان اسمه عجيب تمبولي، وآخر كان اسمه جبار القرنين، وحتى رسائل الاحتيال التي قد ترد إلى بريدي وبريد كل من يستخدم الإنترنت، فيها أسماء من القوة والإيقاع بحيث يمكن توظيفها حالا بلا أي مشقة.
وكما ذكرت من قبل، فأنا أعتقد كثيرا في ظلال الأسماء وأنها تعبر بالضبط عن شخصيات حامليها، ومن النادر جدا أن لا تجد شخصا يشبه اسمه أو مهنته تشبه الاسم. فلن يكون غريبا أن تجد جزارا مثلا اسمه الصعب أو النعمان، بينما سيكون غريبا ان يكون اسمه هيثم أو حسام، وقد قلت لجزار التقيته مرة، وكان اسمه عاطف، ان عليه تغيير اسمه أو مهنته لأن ثمة عدم تناسق في الأمر، فاستغرب من شخص يستخدم الأسماء بهذه الطريقة.
بالطبع لا شيء ملزم لأحد من ناحية عشقي للغرائب التي إن لم أعثر عليها في محيطي، قمت باختراعها، هو أسلوب في الحياة، مثل أساليب كثيرة، يملكها الناس ويتآلفون معها بشكل أو بآخر. وخلال قراءاتي للعديد من القصص، سواء أكانت عربية أو قادمة من لغات أخرى، أحس بالتنافر في مسألة الوجه والاسم أو الشخصية والاسم، وأسعى لتعديل بعض الأشياء في ذهني. وأعرف تماما أن غيري لا يلتفت لذلك، وكاتب النص نفسه قد يستغرب من رأي غير مدعوم بأي شيء سوى الإحساس بأن ثمة خطأ.
جانب آخر كان يحملني على إزعاج كتاب بذلوا جهدا ولا يودون أن ينزعجوا، وهو ما يحدث أثناء قيامي بتحرير النصوص المنتجة في ورش الكتابة الإبداعية التي قد أكلف بالإشراف عليها. ففي كثير من الأحيان أجد شخصية رخوة في نص ما، أوكلت إليها مهام جليلة لا تشبه الاسم أو الصفات، وشخصية صلدة ومهمة تركت ثانوية بلا عمل أو فعل. أيضا أجد ولدا فقيرا متشردا في الشوارع، بلا أي ميزة، تحبه فتاة أرستقراطية مشبعة بالأناقة والجمال، وبائع خضروات متجول في الشوارع، عشقته ربة أحد البيوت وفرت معه تاركة كنزا من الفخامة والاستقرار. وهكذا، وعثرت مرة على سباك أمي، دخل بيتا لتصليح مواسير تسرب المياه، فسقطت طالبة الطب التي تسكن البيت في هواه. كنت أحرر النص بحيث يعتدل في رأيي وأخطر صاحبه الذي قد يرضى وقد يتذمر، وأذكر أن كاتبة شاركت معنا مرة في ورشة، كتبت للقائمين على الورشة، بأنها لا ترغب في أن يحرر المشرف نصها وإلا ستنسحب. لقد قرأت النص طبعا، وكان بحاجة لمجهود كبير، حتى يغدو نصا شبيها بالحياة التي تروى داخله لكنني لم أمسه أبدا.
كاتب سوداني
تعليقات
إرسال تعليق