كأنه يحيى حقي!
رأيت يحيى حقي عن قرب مرة واحدة في حياتي، وكان ذلك في مايو سنة 1989 في قاعة إيوارت بمبني الجامعة الأمريكية بالتحرير. وكانت المرة الأولى التي أدخل فيها هذه القاعة. والحقيقة أنا ومنذ البداية من أكثر الناس زهدا في لقاء الكتاب الذين أحببتهم. ولي تجارب مع كثيرين ممن كنوا يسمون بكبار الكتاب كونت لهم بداية صورة في ذهني فلما قابلتهم (فشخ) الواقع خيالاتي فتوقفت عن السعي للقاء أي منهم. ولكن لقاء يحيى حقي كان استثناءً مذهلاً، بل أنه أعجبني كشخص بقدر ما أعجبني ككاتب أو أكثر، شيء نادر من العذوبة المذهلة والفكاهة الصافية وحب الحياة. واذكر أنني حينما عرفت بهذا اللقاء وكان بعنوان "تجربتي" أخذت اشجع نفسي على الذهاب. فقلت لنفسي لا توجد فرصة أفضل من هذا وقد لا تتكرر لأن الرجل قد يموت دون أن تراه وحسنا فعلت. وآنذاك قدمه الدكتور حمدي السكوت قائلاً أن ليحيى حقي فضل كبير على الثقافة المصرية والعربية بإبداعاته وترجماته ومقالاته الوجدانية التي تفيض بالمشاعر الإنسانية العميقة، ولكن للرجل جانب آخر هو حدبه ورعايته للمواهب الشابة، وأنه ما من أديب في الأجيال اللاحقة بيحيى حقي إلا وفي عنقه فضل ليحيى حقي، حتى نجيب محفوظ انتشله يحيى حقي من وزارة الأوقاف وأجلسه في وزارة الثقافة حين تمكن من ذلك. ولدي مما سجلته من تلك الندوة وما دار فيها وبعدها ملاحظات تملأ تسعة أوراق من الحجم الكبير(فوسكاب)، وسأحاول هنا أن أعيد على أساس منها بناء ذلك الشيء الذي استمعت إليه من يحيى حقي للمرة الأولى والأخيرة! ولتعرفوا أن كان يحيى حقي آنذاك في الثمانين من عمره لذلك بدأ حديثه هكذا:
"عاوز أكلمكم الليلة عن بيت من الشعر يخايلني هذه الأيام وأتأمله بلذة ومتعة. وهو بيت من الشعر القديم ولا أذكر متى قرأته، ولكنه "لصق" في ذهني منذ أن قرأته فهو لا يتركه، وهذه ميزة الشعر المقفى. والبيت يحكي قصة رجل بلغ الثمانين أيضاً، وأصيب في ذهنه، وذهب ليمدح أميراً ما فوقع في مشكلة، إذ كيف يتمنى لهذا الأمير طول العمر وهو يشكو من طوله، فخرج من المشكلة ببيت من الشعر قال فيه: (إن الثمانين – وبُلِّـغْـتَـها // قد أحوجتْ سمعي إلى ترجُمانْ).
ولاحظ أنه أحال الفعل إلى المبني للمجهول (بُلغتها). المسألة بيني وبينك في يد ربنا، ومن هنا مجيء الفعل في صيغة المبني للمجهول يلائم الرجل وكلامه. فهذا الرجل ذهب ليمدح فإذا به شاكياً. ولكن لتعلموا أن لكل مرحلة مشاكلها، ولكن لابد وأن يكون لها متعها أيضاً. الفرنسيون أوجدوا هذا التعبير "آه لو عرف الشباب". إسماعيل صبري ترجمه للعربية هكذا "أواه لو عرف الشباب أواه". وإسماعيل صبري هذا لا يُذكر كثيرا في أبحاثنا الآن مع أنه شاعر كبير. لكن فكرة الشكوى من الشيخوخة نجدها كثيرا في الأدب العربي، ومن الأبيات الشهيرة عندنا قول المتنبي:
خُلقت ألوفاً، لو رجعتُ إلى الصبى // لفارقتُ شيبي مُوجَع القلبِ باكيا
ولا أظن هذا يكون، ولكن تذكروا أن العرب قالت في مثل هذا الموطن: "أعذب الشعر أكذبه". وهذه عبارة كنت أقرأها قديماً ولا أنتبه إليها. ولكنها تدل على أن العربي القديم أدرك بسليقته الفرق بين الصدق الأخلاقي والصدق الفني، وأننا لو نظرنا للثاني بمقياس الأول لقلنا أنه كله كذب! الفن صور متوهمة للعالم الخارجي. البعض يفضل مصطلح "الخيال"، ولكنني أقول بتفضيل مصطلح "الوهم". لاحظ أن الزمن يتغير ويتحول، فهو وهم من الأوهام. وعبارة مثل "أعذب الشعر أكذبه" تتفق وأحدث النظريات في مجال الفنون، ولو تأملناها نستطيع أن نستنتج شيئاً مهما في قضية الكتابة بالفصحى بدلا من العامية. فأنت في الفن طالما غيرت صورة الواقع وحولتها إلى شيء آخر فلماذا لا يندرج هذا أيضاً على الحوار؟!
الفكرة هي أن الفن صراع مع الزمن. كل فنان يحاول أن يقتطع من الزمن فترة ليسجلها أو ليخلدها بأسلوبه الخاص. ولاحظ أن هذه الفكرة في حد ذاتها تتضمن الشعور بأن الزمن عادم، وأن الفن هو خلود العادم. حين أدخل معارض التصوير أحس إحساسا عميقا بأن هذا هو الفن في أرقى صوره، لأن الفنان اقتنص من الزمن لحظة وسجلها داخل إطار بدلا من أن تمر مرور الكرام وتذهب إلى العدم.
وتتصل بهذه الجزئية نقطة أخرى هي: لمن يكتب الكاتب؟ البعض يقول أنه يكتب لنفسه، والبعض أنه يكتب لقرائه. ورأيي أن الكاتب الذي يريد أن يكتب يجب أن يشعر أنه يكتب لسائر الكتاب الأخرين السابقين والمعاصرين والذين سيلحقون به! كأنه يعتبرهم مُحكمين ويقول لهم: انظروا ماذا فعلت؟ وكيف سجلت زمني؟ فهل تقبلوني في ناديكم أم أنني لا استحق؟ فهو يكتب لهؤلاء الأعضاء وهو بعيد عن الجمهور.
وأنا أسأل نفسي أحياناً: ماذا حاولت أن أقول فيما كتبته؟ وأؤكد لكم أنني لا انظر إلى الشكل ولا إلى الموضوع. كان اهتمامي منذ أن بدأت هو "الوصول إلى بلاغة الحديث". البعض يخيل إليه أن البلاغة شيء يُرش على الكلام! أبداً هذا شيء يقلل من قيمة النص. والبلاغة يجب أن تنبع من النص ذاته. وهذا يأتي بإيحاء من اللغة، وشرط هذا أن تختار ألفاظك بعناية، فلكل لفظ موضعه، لا زيادة ولا نقصان! كيف تعرف هذا؟ بالسليقة. نعم بالسليقة! لسومرت موم قصة تتكلم عن أسرة يهودية هاجرت إلى إنجلترا. والإنجليز عندهم عنصرية أكثر من أي بلد أخر! الجد له عمله، والأب له عمله، والحفيد طلع فنانا موسيقيا، تحديدا عازف بيانو. وقد أُحضر له خبير موسيقي ليمتحنه، فقال له: "إنك عازف مجيد، وقد قطعت شوطاً في ذلك، لكن بينك وبين أن تكون موسيقيا مبدعا مسافة بمقدار عرض أصبع واحد، ولكن اجتيازها أصعب من المشوار الذي مشيته طوال حياتك!". هذه المسافة حسب رأيي هي التي توصل إلى السليقة الفنية. اللغة أساليب وورائها سليقة اللغة. ولتصل إلى السليقة تحتاج إلى وقت طويل وقراءات متنوعة حتى تحوزها. ولا يحوزها إلا قليل! وأعتقد أن الشعر القديم هو أقصر الطرق لمعرفة السليقة. ومع الأسف الشديد أننا ورثنا نثرا لا يرتفع إلى مستوى الشعر العربي الذي ورثناه. وهذا يتضح من موقف القبائل من الشعراء قديما. فهي تتأمل أبنائها فإذا نبغ واحد منهم في قول الشعر احتضنته وأرسلته إلى الأسواق، وإلى وادي عبقر حتى يركبه جن الشعر أو عفريته! ومن ثم يصبح المحامي عن القبيلة والمدافع عنها. ونظرية الجن أو العفريت في الشعر هي أساس التوهم الذي تحدثنا عنه. وعلى العموم فالشعر العربي القديم، وهو مفخرة هذه الأمة، من أصدق مصادر الثقافة العربية، وكلما رجعنا إليه ودرسناه بأحدث الأساليب سنجد أشياء كثيرة غفلنا عنها في الماضي. أنا اكتسبت سليقتي في الكتابة بالرجوع إلى هذا الشعر العربي القديم، وبه ارتفع أسلوبي من مجرد الإخبار إلى المستوى الفني والإبداعي".
رأيت يحيى حقي عن قرب مرة واحدة في حياتي، وكان ذلك في مايو سنة 1989 في قاعة إيوارت بمبني الجامعة الأمريكية بالتحرير. وكانت المرة الأولى التي أدخل فيها هذه القاعة. والحقيقة أنا ومنذ البداية من أكثر الناس زهدا في لقاء الكتاب الذين أحببتهم. ولي تجارب مع كثيرين ممن كنوا يسمون بكبار الكتاب كونت لهم بداية صورة في ذهني فلما قابلتهم (فشخ) الواقع خيالاتي فتوقفت عن السعي للقاء أي منهم. ولكن لقاء يحيى حقي كان استثناءً مذهلاً، بل أنه أعجبني كشخص بقدر ما أعجبني ككاتب أو أكثر، شيء نادر من العذوبة المذهلة والفكاهة الصافية وحب الحياة. واذكر أنني حينما عرفت بهذا اللقاء وكان بعنوان "تجربتي" أخذت اشجع نفسي على الذهاب. فقلت لنفسي لا توجد فرصة أفضل من هذا وقد لا تتكرر لأن الرجل قد يموت دون أن تراه وحسنا فعلت. وآنذاك قدمه الدكتور حمدي السكوت قائلاً أن ليحيى حقي فضل كبير على الثقافة المصرية والعربية بإبداعاته وترجماته ومقالاته الوجدانية التي تفيض بالمشاعر الإنسانية العميقة، ولكن للرجل جانب آخر هو حدبه ورعايته للمواهب الشابة، وأنه ما من أديب في الأجيال اللاحقة بيحيى حقي إلا وفي عنقه فضل ليحيى حقي، حتى نجيب محفوظ انتشله يحيى حقي من وزارة الأوقاف وأجلسه في وزارة الثقافة حين تمكن من ذلك. ولدي مما سجلته من تلك الندوة وما دار فيها وبعدها ملاحظات تملأ تسعة أوراق من الحجم الكبير(فوسكاب)، وسأحاول هنا أن أعيد على أساس منها بناء ذلك الشيء الذي استمعت إليه من يحيى حقي للمرة الأولى والأخيرة! ولتعرفوا أن كان يحيى حقي آنذاك في الثمانين من عمره لذلك بدأ حديثه هكذا:
"عاوز أكلمكم الليلة عن بيت من الشعر يخايلني هذه الأيام وأتأمله بلذة ومتعة. وهو بيت من الشعر القديم ولا أذكر متى قرأته، ولكنه "لصق" في ذهني منذ أن قرأته فهو لا يتركه، وهذه ميزة الشعر المقفى. والبيت يحكي قصة رجل بلغ الثمانين أيضاً، وأصيب في ذهنه، وذهب ليمدح أميراً ما فوقع في مشكلة، إذ كيف يتمنى لهذا الأمير طول العمر وهو يشكو من طوله، فخرج من المشكلة ببيت من الشعر قال فيه: (إن الثمانين – وبُلِّـغْـتَـها // قد أحوجتْ سمعي إلى ترجُمانْ).
ولاحظ أنه أحال الفعل إلى المبني للمجهول (بُلغتها). المسألة بيني وبينك في يد ربنا، ومن هنا مجيء الفعل في صيغة المبني للمجهول يلائم الرجل وكلامه. فهذا الرجل ذهب ليمدح فإذا به شاكياً. ولكن لتعلموا أن لكل مرحلة مشاكلها، ولكن لابد وأن يكون لها متعها أيضاً. الفرنسيون أوجدوا هذا التعبير "آه لو عرف الشباب". إسماعيل صبري ترجمه للعربية هكذا "أواه لو عرف الشباب أواه". وإسماعيل صبري هذا لا يُذكر كثيرا في أبحاثنا الآن مع أنه شاعر كبير. لكن فكرة الشكوى من الشيخوخة نجدها كثيرا في الأدب العربي، ومن الأبيات الشهيرة عندنا قول المتنبي:
خُلقت ألوفاً، لو رجعتُ إلى الصبى // لفارقتُ شيبي مُوجَع القلبِ باكيا
ولا أظن هذا يكون، ولكن تذكروا أن العرب قالت في مثل هذا الموطن: "أعذب الشعر أكذبه". وهذه عبارة كنت أقرأها قديماً ولا أنتبه إليها. ولكنها تدل على أن العربي القديم أدرك بسليقته الفرق بين الصدق الأخلاقي والصدق الفني، وأننا لو نظرنا للثاني بمقياس الأول لقلنا أنه كله كذب! الفن صور متوهمة للعالم الخارجي. البعض يفضل مصطلح "الخيال"، ولكنني أقول بتفضيل مصطلح "الوهم". لاحظ أن الزمن يتغير ويتحول، فهو وهم من الأوهام. وعبارة مثل "أعذب الشعر أكذبه" تتفق وأحدث النظريات في مجال الفنون، ولو تأملناها نستطيع أن نستنتج شيئاً مهما في قضية الكتابة بالفصحى بدلا من العامية. فأنت في الفن طالما غيرت صورة الواقع وحولتها إلى شيء آخر فلماذا لا يندرج هذا أيضاً على الحوار؟!
الفكرة هي أن الفن صراع مع الزمن. كل فنان يحاول أن يقتطع من الزمن فترة ليسجلها أو ليخلدها بأسلوبه الخاص. ولاحظ أن هذه الفكرة في حد ذاتها تتضمن الشعور بأن الزمن عادم، وأن الفن هو خلود العادم. حين أدخل معارض التصوير أحس إحساسا عميقا بأن هذا هو الفن في أرقى صوره، لأن الفنان اقتنص من الزمن لحظة وسجلها داخل إطار بدلا من أن تمر مرور الكرام وتذهب إلى العدم.
وتتصل بهذه الجزئية نقطة أخرى هي: لمن يكتب الكاتب؟ البعض يقول أنه يكتب لنفسه، والبعض أنه يكتب لقرائه. ورأيي أن الكاتب الذي يريد أن يكتب يجب أن يشعر أنه يكتب لسائر الكتاب الأخرين السابقين والمعاصرين والذين سيلحقون به! كأنه يعتبرهم مُحكمين ويقول لهم: انظروا ماذا فعلت؟ وكيف سجلت زمني؟ فهل تقبلوني في ناديكم أم أنني لا استحق؟ فهو يكتب لهؤلاء الأعضاء وهو بعيد عن الجمهور.
وأنا أسأل نفسي أحياناً: ماذا حاولت أن أقول فيما كتبته؟ وأؤكد لكم أنني لا انظر إلى الشكل ولا إلى الموضوع. كان اهتمامي منذ أن بدأت هو "الوصول إلى بلاغة الحديث". البعض يخيل إليه أن البلاغة شيء يُرش على الكلام! أبداً هذا شيء يقلل من قيمة النص. والبلاغة يجب أن تنبع من النص ذاته. وهذا يأتي بإيحاء من اللغة، وشرط هذا أن تختار ألفاظك بعناية، فلكل لفظ موضعه، لا زيادة ولا نقصان! كيف تعرف هذا؟ بالسليقة. نعم بالسليقة! لسومرت موم قصة تتكلم عن أسرة يهودية هاجرت إلى إنجلترا. والإنجليز عندهم عنصرية أكثر من أي بلد أخر! الجد له عمله، والأب له عمله، والحفيد طلع فنانا موسيقيا، تحديدا عازف بيانو. وقد أُحضر له خبير موسيقي ليمتحنه، فقال له: "إنك عازف مجيد، وقد قطعت شوطاً في ذلك، لكن بينك وبين أن تكون موسيقيا مبدعا مسافة بمقدار عرض أصبع واحد، ولكن اجتيازها أصعب من المشوار الذي مشيته طوال حياتك!". هذه المسافة حسب رأيي هي التي توصل إلى السليقة الفنية. اللغة أساليب وورائها سليقة اللغة. ولتصل إلى السليقة تحتاج إلى وقت طويل وقراءات متنوعة حتى تحوزها. ولا يحوزها إلا قليل! وأعتقد أن الشعر القديم هو أقصر الطرق لمعرفة السليقة. ومع الأسف الشديد أننا ورثنا نثرا لا يرتفع إلى مستوى الشعر العربي الذي ورثناه. وهذا يتضح من موقف القبائل من الشعراء قديما. فهي تتأمل أبنائها فإذا نبغ واحد منهم في قول الشعر احتضنته وأرسلته إلى الأسواق، وإلى وادي عبقر حتى يركبه جن الشعر أو عفريته! ومن ثم يصبح المحامي عن القبيلة والمدافع عنها. ونظرية الجن أو العفريت في الشعر هي أساس التوهم الذي تحدثنا عنه. وعلى العموم فالشعر العربي القديم، وهو مفخرة هذه الأمة، من أصدق مصادر الثقافة العربية، وكلما رجعنا إليه ودرسناه بأحدث الأساليب سنجد أشياء كثيرة غفلنا عنها في الماضي. أنا اكتسبت سليقتي في الكتابة بالرجوع إلى هذا الشعر العربي القديم، وبه ارتفع أسلوبي من مجرد الإخبار إلى المستوى الفني والإبداعي".
تعليقات
إرسال تعليق